المقالات

ربيع آذار

هنالك في شهر آذار حيث وُلد الربيع مرتين، وفاحت رائحة القمح والزيتون في كل مكان، وصدحت الحناجر بالحرية التي خفقت لها قلوب الثائرين.

المكان، هو المدينة التي تلاقت على ترابها جيوش الغُزاة والفاتحين منذ معركة اليرموك الخالدة وما سبقها وما تلاها.

تتكئ اليوم على آلامها، والدم يغمر وجنتيها ليشهد كيف أنشب كل شياطين الأرض أظافرهم في وجهها الجميل، وكيف آلمهم حجم الإباء الذي تختزنه عيناها العسليتان، وكيف أغاظهم كل هذا الكبرياء المسكون في جسدها النحيل.

لم يكن ذنبها العصي على الغفران إلا ما خطه الصبية على ذلك الجدار الذي تواطأ معهم على الإثم والخطيئة، وما الخطيئة في عرف الجلاد إلا معنى آخر للفضيلة والبراءة.

أشرقت شمس الحرية وألقت عباءتها الذهبية على السهل الغارق في ظلام اليأس والعبودية.

بدا كل شيء ضرباً من الجنون، وكانت اللحظات الأولى تفيض بالمشاعر المتناقضة التي يمتزج فيها الجزع بالطمأنينة، ويتداخل الشك باليقين، والعجز بالاستطاعة، وكان الثابت في كلّ ذلك أنه (لا تراجع لا استسلام حتى يسقط النظام).

وإذا كان الفداء آية الوفاء؛ فإن أوجب ما يجب علينا تجاه مدينتنا العالية أن نعوذها بدمائنا، ونهمس باسمها القدسي عند كل صلاة.

وها نحن من كل فجاج الأرض، جئناها بكل ما أوتينا من عشقٍ لنغنّيَ معاً نشيد الخلود (حرية حرية)، ونمسحَ جراحها النازفةَ، وجبينها المغبرَّ، ونحطم على بازلتها الصلد كل آلهة الخوف إلى الأبد.

حتى وإن تناءت المسافات بيننا؛ إلا أن وجهك الوضاء يملأ كل زوايا الذاكرة، وطيفك الملائكي يلاحقنا إلى أقصى منافينا، فما نزال، يا درعا، ونحن في مجاهل الغربة نَسأل عنك، ونُسأل عنك، ولا تنفك أشواقنا تتلاطم أمواجها في ثنايا أكبادنا المحزونة.

وما لنا؟  ألا نشتاق إلى صدرك الطافح بالحب والأمان والسكينة؟!

إن قلوبنا التي أنهكها الظمأ لتذوب من فرط الصبابة، وتتوق إليك مثلما يتوق الفارس إلى سيفه وجواده، ومثلما يهفو الطائر إلى الغصن الذي تعلَّم الشدو عليه أول مرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى